الشيخ صالح الكواز
يعتبر الشيخ صالح الكواز من أبرز شعراء عصره وأدباء دهره، ولعلني أول من كتب عنه وترجم له فقد سبق أن نشرت ترجمة لاخيه الصغير الشيخ حمادي الكواز في مجلة الاعتدال النجفية سنة 1354 ه (1) وفي ضمنها تعرضت لذكر أخيه الكبير الشيخ صالح الكواز (صاحب الديوان) وبعد ذلك ترجمت لهما معاً في كتابنا (البابليات)(2). ولم يكتب عن المترجم أحد من المؤرخين والباحثين الاّ العلامة الزركلي في كتابه (الاعلام)(3) الذي نقل كل ما كتبه عنه من كتابنا (البابليات)، كما وكتب عنه سيدنا الامين (ره) في كتابه الكبير (أعيان الشيعة) ولكنه اختلطت لديه ترجمته بترجمة أخيه الشيخ حمادي فذكر عن شاعرنا المترجم بانه كان كأخيه الشيخ حمادي سليقي النظم يقول فيعرب ولا معرفة له بالنحو .. في حين ان ذلك مخالف للحقيقة والصواب، لان المترجم كان على جانب عظيم من الفضل والتضلع في علمي النحو والادب ـ كما سنفصل ذلك ـ بخلاف أخيه الشيخ حمادي الذي كان أميّاً لا يعرف من النحو والعربية شيئاً بل كان ينظم على الذوق والسليقة.
_______________________________
1 العدد 9 من المجلد 3.
2 الجزء الثاني الصادر سنة 1370 ه .
3 ص 283.
وشاعرنا المترجم هو ابو المهدي الشيخ صالح بن المهدي بن الحاج حمزة عربي المحتد يرجع في الاصل الى قبيلة (الخضيرات) احدى عشائر شمر المعروفة في نجد والعراق، وأمّه من أسرة آل العذاري المعروفة بالفضل والادب.
كانت ولادته سنة 1233 ه، ووفاته في شوال سنة 1290 ه، كما قرأت ذلك بخط معاصره الشيخ الاديب علي بن الحسين العوضي فيكون عمره (57) سنة ودفن في النجف الاشرف.
ومما يدلك على سمو مكانته اقامة مجلس العزاء والفاتحة له من قبل العلامة الكبير السيد مهدي القزويني، وقد رثاه نخبة من فطاحل شعراء عصره وفي مقدمتهم الشاعر المشهور السيد حيدر الحلي الذي رثاه بقصيدة مثبتة في ديوانه المطبوع مطلعها.
كل يوم يسومني الدهر ثكلا ويريني الخطوب شكلا فشكلا
كما رثاه الشيخ محمد الملا بقصيدة مطلعها.
قالوا تعز فقلت اين عزائي والبين أصمى سهمه احشائي
ولئن عاش ومات أخوه الشيخ حمادي أميّا فقد كان صاحب الديوان يعد في طليعة أفاضل الفيحاء في عصره علماً وأدبا ودرس النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان على خاله الشيخ علي العذاري والشيخ حسن الفلوجي والسيد مهدي السيد داود(4) وتخرج في الفقه وعلوم الدين على العلامة السيد مهدي القزويني، وبالاضافة الى ذلك كله فنحن نجد في ثنايا أشعاره ما يستدل به على تضلعه في جملة من العلوم الرياضية وغيرها كقوله على اصطلاح المنطقيين.
_______________________________
4 وقد ترجمنا لكل واحد منهم في كتابنا البابليات.
شاركنها بعموم الجنس وانفردت عنهن فيما يخص النوع من نسب
وعلى اصطلاح الكلاميين قوله:
لو رامه العقل المجرد عاد في طرف حسير
ولكي نرسم للقارئ الكريم صورة تامة عن شاعرنا المترجم نذكر بانه كان خفيف شعر العارضين، أسمر اللون شاحبه، رثّ الثياب، كثير الصمت، وكان يتعاطى مهنة أبيه وهي بيع (الكيزان) والجرار والاواني الخزفية ولذلك أشتهر بـ (الكواز).
وكان مع رقة حاله وضعف ذات يده يحمل بين جنبيه نفساً أبية تفيض عفةً وشرفاً وعزةً وكرماً، متعففاً عما في أيدي الناس قانعاً بما قدر له من الرزق مترفعاً عن الاستجداء بشعره، فما ورد عنه في هذا المجال انه طلب اليه أحد ذوي الجاه والسلطات الرسمية في الحلة أن ينظم له أبياتا في رثاء أبيه ويؤرخ فيها عام وفاته لتنقش على صخرة تبنى على ضريحه في مقبرة (مشهد المقدس) وبذل له على ذلك بتوسط أحد أصدقائه ما يقارب الاربعين ليرة عثمانية، فامتنع عن ذلك مع شدة حاجته وعظيم فاقته لانه كان لا يزف عرائس أفكاره الابكار الاّ لاهل البيت الاطهار (ع)، واذا تعدى ذلك فالى بعض الاسر العريقة بالعلم والادب، الشهيرة بالمجد والشرف كآل القزويني في الحلة وآل كاشف الغطاء في النجف الاشرف وآل كبه في بغداد وآل الرشتي في كربلاء وأضرابهم.
وكان يجمع بين الرقة والظرافة والنسك والورع والتقى والصلاح، فقد قال عنه علي بن الحسين العوضي: كان على ما فيه من الظرف ناسكا ورعا متهجداً يحيي أكثر لياليه بالعبادة طابق اسمه مسماه لطيف المحاضرة حاضر الجواب سريع البديهة لطيفاً في كل فصل وباب، وقال عنه أيضاً: كان يسكن محلة (التعيس) احدى محلات الحلة الشمالية ـ ويقيم صلاة الجماعة في أحد مساجد الجباوين بالقرب من مرقد ابي الفضائل ابن طاووس وللناس أتم وثوق في الائتمام به انتهى.
والى ذلك اشار من رثاه من الشعراء فقد رود في مرثية السيد حيدر الحلي له بقوله:
ثـكل أم القربض فيك iiعظيم ولام الـصلاح أعـظم iiثكلا
قد لعمري أفنيت عمرك نسكا وسلخت الزمان فرضا iiونفلا
وطـويت الايام صبراً iiعليها فـتساوت عليك حزنا وسهلا
طالما وجهك الكريم على iiاللّه بـه قـوبل الـحيا iiفاستهلا
والى ذلك اشار أيضاً الشيخ محمد الملا في مرثيته له بقوله:
ذهب الردى منه بنفس مكرم ومنزه عن ريبة ورباء
يبكيك مسجدك الذي هو لم يزل لك في صلاة مزهراً ودعاء
وقد اعقب المترجم من الولد ثلاثة: هم الشيخ مهدي والشيخ عبد اللّه وعبد الحسين، وقد ذكر الشاعر ابن الملا في قصيدته التي رثاه بها اثنين منهم ولم يذكر الثالث لصغر سنه يومذاك وكلهم توفوا بعد أبيهم بمدة وجيزة، ولو عاش اصغرهم لا حيا ذكر أبيه وهو عبد الحسين الذي كان ابوه قد وكل أمر تربيته وتعليمه القرآن الى المرحوم الشيخ محمد الملا يوم كان هذا الشيخ تجتمع اليه تلاميذه في جامع ملاصق لداره فمرض ابن الكواز المذكور يوما مرضا عاقه عن الحضور عند مؤدبه فلما أبلّ من مرضه كتب معه أبوه الى أستاذه رقعة هذا نصها: كان عبدك مريضاً وليس على المريض حرج وهذا تكليف رفعه اللّه عنه فارفع تكليفك عنه وضع العفو مكان العصا، فاجابه الشيخ محمد الملا وذلك سنة 1285.
أصالح انا قد أردنا صلاح من أراد بطول البعد عنا تخلصا
فان العصا كانت دواه واننا رفعنا العصا عنه وان كان قد عصى
ولما توفي والده المترجم صار يدرس ولده عبد الحسين المذكور قواعد اللغة العربية وآدابها على العلامة السيد محمد القزويني طاب ثراه وله من العمر (15) سنة فامتدح استاذه السيد بقصيدة تائية ـ كما حدثني بذلك السيد القزويني نفسه ـ وقال ظننت أنها من قصائد ابيه وقد انتحلها لنفسه لرقة الفاظها وحسن معانيها فنظمت له هذين البيتين طالباً منه تشطيرهما على سبيل الاختبار والامتحان.
لقد قيل لي ان عبد الحسين بنظم القريض غدا فائقا
فقلت النظام مع الامتحان يرى كاذبا فيه أو صادقا
فشطرهما مرتجلا وقد أحسن كما ترى:
لقد قيل لي ان عبد الحسين بـنهج أبـيه غـدا iiلاحقا
وهـا هـو قـاربه iiانـه بـنظم القريض غدا iiفائقا
فـقلت النظام مع الامتحان قـد فضح الشاعر iiالسارقا
فـدعه يـشطر بيتي iiكي يـرى كاذبا فيه او صادقا
قال السيد القزويني فاعتقدت عند ذلك ان القصيدة له فاجزته عليها، وقد توفى عبد الحسين المذكور حوالى سنة 1295 ه وهو ابن نيف وعشرين سنة تقريباً ولم نعثر على شيء من شعره(5).
وبعد ان انتهينا من ترجمة حياته لابد لنا من إلقاء نظرة سريعة في أدبه واعطاء صورة واضحة للقارئ الكريم عن شاعرية هذا الشاعر الفحل الذي كانت له مكانة أدبية كبيرة وشاعرية يشار اليها بالبنان، وناهيك بمن يطريه شاعر عصره على الاطلاق السيد حيدر الحلي، فيقول عنه في تصديره احدى قصائد المترجم في كتابه (دمية القصر) المخطوط ما هذا نصه: أطول الشعراء باعا في الشعر وأثقبهم فكرا في انتقاء لئالي النظم والنثر خطيب مجمعة الادباء والمشار إليه بالتفضيل على سائر الشعراء، وقال عنه أيضاً في الكتاب المذكور وهو في صدر التقديم لاحدى قصائده: فريد الدهر
وواحد العصر الذي سجدت لعظيم بلاغته جباه اقلامه واعترفت بفصاحته فضلاء عصره وايامه وفاق بترصيع نظامه وتطريز كلامه أرباب الادب من ذوي الرتب ومن راية في النظم على كل رأي أديب راجح الشيخ صالح الحلي.
وسئل الحاج جواد بذقت احد شعراء كربلاء المشهورين في عصر الكواز(6) عن أشعر من رثى الامام الحسين بن علي (ع) فقال: ـ أشعرهم من شبه الحسين بنبيين من أولي العزم في بيت واحد وهو الكواز بقوله:
______________________________
5 ترجمنا له في كتابنا البابليات (ج 2 ص 108).
6 سياتي ذكره في آخر هذا الديوان.
كأن جسمك موسى مذهوى صعقاً وان رأسك روح اللّه مذرفعا
الى غير ذلك من أقوال عارفي فضله ومقدري مكانته الادبية وشاعريته اللامعة.
وقد ذاع شعره واشتهر ذكره وتناقل المنشدون والخطباء في المحافل الحسينية قصائده في اهل البيت (ع) فكانت تتلى وتنشد في شتى المناسبات وفي أمهات المدن العراقية كبغداد والحلة والنجف الاشرف وكربلاء والبصرة، وانت حين تمعن النظر في شعره تجده يمتاز على شعر غيره ممن عاصره أو تقدم عليه أو تأخر عنه فيما أودعه من التلميح بل التصريح على الاغلب الى حوادث تاريخية وقصص نبوية وأمثال سائرة ليتخلص منها الى فاجعة الطف مما يحوج القارئ الى الالمام بكثير من القضايا والوقائع ومراجعة الكتب التاريخية، ولا يخفى على القارئ الكريم ان ذلك فن من فنون الصناعة البديعية الشعرية الذي قل من حاكاه فيه من أدباء عصره وغيرهم، وبالاضافة الى ذلك كله كان يمتاز بالرصانة في التركيب والرقة في الالفاظ والدقة في المعاني والابداع في التصوير واليك بعض الشواهد على ذلك من قصائده المتفرقة فمنها قوله:
وهـل تؤمن الدنيا التي هى iiانزلت سـليمان مـن فـوق البناء المحلق
ولا سـدّ فـيها الـسد عـمن اقامه طـريق الردى يوما ولا ردما iiلقى
مضى من (قصي) من غدت لمضيه كـوجه (قصير) شانه جذع iiمنشق
ومن بائيته في شهداء الطف.
تـأسـى بـهم (آل الـزبير) فـذللت (لمصعب) في الهيجا ظهور المصاعب
ولـولاهم (آل الـمهلب) لـم iiتـمت لـدى واسـط مـوت الابي iiالمحارب
و (زيـد) وقـد كـان الابـاء iiسجية لابـائـه الـغـر الـكرام iiالاطـايب
كــأن عـليه اُلـقي الـشبح iiالـذي تـشكل فـيه شـبه عـيسى iiلصالب
ومن نونيته قوله:
وقفوا معي حتى إذا ما استيأسوا (خلصوا نجياً) بعد ما تركوني
فكأن (يوسف) في الديار محكم وكأنني بـ (صواعه) اتهموني
ومنها:
نبذتهم الهيجاء فوق تلاعها كالنون ينبذ في العرا (ذا النون)
فتخال كلا ثم (يونس) فوقه شجر الفنا بدلا عن (اليقطين)
وقوله:
فليبك (طالوت) حزناً للبقية من قد نال (داود) فيه اعظم الغلب
وقوله:
وهادر الدم من (هبار) ساعة إذ بالرمح هودج من تنمى له قرعا
وتجد في خلال شعره ما هو جدير بان يكون من الامثال السائرة والحكم الخالدة كقوله:
وإن امءراً سرن الليالي بضعنه لاسرع ممن سار من فوق أنيق
وقوله:
ولو لم تنم اجفان عمرو بن كاهل لما نالت النمران منه منالها
وقوله:
والفضل آفة أهليه ويوسف في غيابة الجب لو لا الفضل لم يغب
وحسن نصر بن حجاج نفاه وفي سواه طيبة منها العيش لم يطب
وقوله:
واذا ما الكريم جاء بعذر فالذي منه يقبل العذر أكرم
وقوله:
ومن شاطر الناس أمواله فقد شاطرته الرضا والغضب
وقوله:
ولربما فرح الفتى في نيله أرباً خلعن عليه ثوب حزين
وإذا أضل اللّه قوما أبصروا طرق الهداية ضلة في الدين
وقوله:
اذا كانت الابناء فيها شمائل لابائها فالامهات نجائب
وحين نظم نونيته العصماء التي رثى بها أهل البيت ومطلعها:
هـل بـعد موقفنا على iiيبرين احـيا بـطرف بالدموع iiضنين
هم أفضل الشهداء والقتلى الالى مـدحوا بوحي في الكتاب iiمبين
لا عيب فيهم غير قبضهم iiاللوا عند اشتباك السمر قبض iiضنين
عارضها جماعة من مشاهير شعراء ذلك العصر وزناً وروياً وفي مقدمتهم السيد حيدر بقصيدته التي يندب في أولها الامام المهدي (ع) ومطلعها:
إن ضاع وترك يابن حامي الدين لا قال سيفك للمنايا كوني
ومنهم الشيخ حسن قفطان النجفي بقصيدته التي رثى فيها العباس بن علي (ع) ومطلعها:
هيهات أن تجفوا السهاد عيوني أو أن داعية الاسى تجفوني
ومنهم الشيخ محسن أبو الحب خطيب كربلاء المتوفى سنة 1305 ه بقصيدة مطلعها:
ان كنت مشفقة علي دعيني مازال لومك بالهوى يغريني
ومنهم صديقه الحاج جواد بذقت الحائري إلاّ أن قصيدته مضمومة القافية وأولها:
فوق الحمولة لؤلؤ مكنون زعم العواذل أنهن ضعون(7)
_____________________________________
7 مما يجب التنبيه عليه هو ان صاحب كتاب شعراء الحلة قد ترجم لصاحب الديوان ونقل مما اثبتناه في كتابنا (البابليات) جملة من شعره ثم اراد (الباحث) أن يأتي بشيء جديد لم يأت به غيره فنسب له هذه القصيدة النونية واورد منها (21) بيتاً وهي ليست للكواز وانما هي للحاج جواد المذكور كما اثبتها السيد الامين في الجزء السابع عشر من (الاعيان) ص 188 نقلاً عن (الطليعة) للسماوي وهي مدونة في كثير من المجاميع المخطوطة ومثبتة بديوان الحاج جواد بذقت الذي كانت نسخة الاصل منه في مكتبة سادن الروضة الحسينية.
ومن الجديد الذي جاء به قوله: ان المترجم دخل يوما على صديقه الشاعر عبد الباقي العمري ولم يعرفه وكان عنده ساقيا ـ كذا ـ للقهوة اسمه مالك قال فيه:
قلت ما الاسم فدتك النفس مني قال مالك
فقال الكواز:
قلت صف لي خدك الزا هي وصف حسن اعتدالك
وليعلم القارئ أن هذا الشعر الذي نسبه للكواز والعمري ليس لهما وانما البيتان هما من ابيات نظمها شاعر قديم سبق الكواز والعمري وصاحب كتاب شعراء الحلة بستمائة عام وقد اوردها صاحب شذرات الذهب ابن عماد الحنبلي المتوفى (1089) وذكرها في حوادث سنة (654) حيث قال وفيها توفى الامير مجاهد الدين ابراهيم بن ادنبا الذي بنى الخانقاه المجاهدية بدمشق ومن نظمه في مليح اسمه مالك قوله:
ومـليح قـلت مـا iiالاسـم حـبـيبي قــال iiمـالـك
قـلت صـف لـي iiوجـهك الزاهي وصف حسن اعتدالك
قــال كـالغصن iiوكـالبدر ومـــا اشـبـه iiذلــك
وذكر للكواز قطعة مطلعها:
يا ابنة العامري هل للمشوق رشقة من طلى لماك الرحيق
ونسى انه نسبها لاخيه الشيخ حمادي في الجزء الثاني من كتابه المذكور.
ومنهم الشيخ عبد الحسين شكر النجفي المتوفى 1285 بقصيدة رثى فيها الامام علي بن موسى الرضا (ع) ومطلعها:ـ
ماذا اصاب عوالم التكوين فتجلببت اقمارها بدجون(8)
_______________________________
8 وهي مثبتة في ديوانه الذي نشرناه في النجف الاشرف سنة 1374.
ومنهم الشيخ سالم الطريحي المتوفى بعد الكواز ببضع سنين بقصيدة في رثاء الامام الحسين مطلعها:
ابدار وجرة ام على جيرون عقلوا خفاف ركائب وضعون
وهذه المعارضة لقصيدته تلك من قبل شعراء عصره المشهورين تدلك ـ بلا شك ـ على شهرته ومكانته العالية.
ولشاعرنا المترجم ابيات مشهورة مثبتة في محلها من هذا الديوان اولها.
وشاعر ملا الاوراق قافية ويحسب الشعر في تسويد اوراق
وآخرها بيته المشهور المعروف.
أخرست (أخرس) بغداد وناطقها وما تركت (لباقي) الشعر من باقي(9)
__________________________________________
9 اخرس بغداد المقصود به الشاعر المشهور السيد عبد الغفار الاخرس البغدادي المتوفى سنة 1290 ، ويقصد بباقي الشعر الشاعر المشهور عبد الباقي العمري المتوفى سنة 1278 وقد تضمن سيدنا واستاذنا العلامة السيد محمد القزويني صدر هذا البيت في بيتين خاطب فيهما (حفيد اخيه السيد مهدي بن الهادي بن المرزا صالح القزويني) وكانت في لسانه حبسة وتمتمة ويسميه عمه المذكور اخرس قزوين:
قولوا لاخرس قزوين اذا تليت فرائد فكره قد صاغ رائقها
لم تبق ناطق شعر في الورى ولقد (أخرست اخرس بغداد وناطقها)
وقذ ذكرنا القصة في ترجمة السيد مهدي في كتابنا البابليات (ج 4 ص 161).
وقد صادف بعد ذلك ان اجتمع بالسيد عبد الغفار الاخرس المشار اليه بهذا البيت وذلك على ما حدثنا به سيدنا الاستاذ العلامة السيد محمد القزويني طاب ثراه من انه في سنة 1285 وهي السنة التي قتل فيها السيد رضا الرفيعي والد السيد جواد ـ سادن الروضة الحيدرية ـ امرت الحكومة العثمانية بنفي جماعة من رؤساء النجف الاشرف الى الحلة واتفق في اثناء ذلك قدوم الشاعر السيد عبد الغفار الاخرس البغدادي الى الفيحاء فاجتمع في نادي احد زعماء الشمرت باحد ظرفاء الحلة ممن تجمعه واياه صلة الادب وكان من بين الحاضرين شاعرنا الكواز ـ فقال الاخرس البغدادي لصاحبه ارني (كوازكم) الذي يقول (اخرست اخرس البغداد وناطقها الخ) فقال ها هو ذا جليسك، فلما رأى (الاخرس) هيئته استصغره واعرض عنه وقال انه ليس هذا فقال له صاحبه ايها السيد انه هو، هو بعينه والمرء مخبوء تحت طي لسانه لاطيلسانه، فعند ذلك عاتب الاخرس شاعرنا الكواز على ذلك البيت فقال الكواز للاخرس اما علمت ان بمقدار علو همة الشاعر تكون حماسته واليك فاسمع الان ما اقوله وانشد.
فلو ان لبسي قدر نفسي لاصبحت تحاك ثيابي من جناح الملائك
ولو كان فيما استحق مجالسي نصبن على هام السماك ارائكي
ولما بلغ عبدالباقي العمري للوصلي قول الكواز المذكور اعلاه وهو (وما تركت لباقي الشعر من باقي) قال العمري اذن اين اضع الباقيات الصالحات... ويروى ان الكواز جاء الى بغداد ونزل ضيفاً على الحاج عيسى والحاج احمد آل شالجي موسى من تجار وأدباء بغداد فارادوا زيارة عبد الباقي العمري فذهب معهما الكواز على تنكره وجلس في طرف المجلس فقال عبدالباقي حضرني شطر وهو (قيل لي من سما سماء المعالي) وجعل يردده ولا يحضره عجز له فلما طال ذلك على الكواز قال (قلت عيسى سما السماء واحمد) فقال عبد الباقي انت الكواز بلا شك وقربه وادناه وكساه.
وقد حدث جماعة من معاصري شاعرنا المترجم بانه جمع المختار من شعره وشعر اخيه الشيخ حمادي فى ديوان اسماه (الفرقدان) وقد حرصت عليه زوجته بعد وفاته كل الحرص ثم لا يدري اين ذهب بعد ذلك.
وقيل ان ولد المترجم (عبداللّه) جمع المختارات من شعر والده في ديوان رتبه على الحروف الهجائية، ثم استعير منه ولم يعد اليه. وعلى أية حال فقد ضاع ذلك الديوان المجموع مع ما ضاع من النفائس الشعرية والادبية في ذلك العهد.
وقد بذلت من الجهد الشيء الكثير لجمع ما تيسر لي جمعه من شعره منذ امد بعيد من شتى المصادر والمجاميع المخطوطة التي تضمها مكتبتنا. والتي عثرت عليها في مكتبات النجف والحلة وكربلاء
وبغداد، وكان ثمرة تلك الجهود التي بذلناها هذا (الديوان)(10) الذي يضم حوالى (1500) بيت والذي يسرنا ان نقدمه الى القراء الكرام خدمة للادب والشعر والتاريخ واحياء لذكرى هذا الشاعر الكبير واللّه من وراء القصد.
النجف الاشرف
محمد علي اليعقوبي
1 شعبان 1384 ه
________________________________________
10 ومن هذا الديوان نقل الاستاذ ابراهيم الوائلي بعض الشواهد في شعر الكواز في كتابه (الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر ص 185).